كمهندسة معمارية هكذا سأصمم منزلي

By Marah Sleman

يزورنا الكثير من العملاء في المكتب حاملين أحلامهم الكبيرة برسم ملامح منزل العمر، ذلك الملاذ الذي يحتضن تفاصيل الحياة بكل ما فيها من لحظات تنبض فيها الذكريات و تتشابك الأيام والسنين لتروي حكايات أصحابها، بين جدرانه تتراقص الضحكات وتُهمس الأسرار و تتجلى لحظات الفرح والحزن و النجاح والتأمل، إنه مسرح الحياة بجدرانه الصامتة الشاهدة على كل خطوة وكل شعور وكل ذكرى، انه الفضاء الذي يتنفس أحلام ساكنيه فيكتب مع كل إشراقة شمس صفحة جديدة من قصة حياتهم ويطوي صفحة اخرى لتذهب طيّ النسيان.

في المنزل تُحتسى القهوة على شرفات الغرف وسط سكون الصباح، وتملأ الضحكات أرجاء الغرف في ليالٍ هادئة و تُنسج تفاصيل الحياة اليومية بكل ما فيها من بساطة وعمق؛ كأم تودع أطفالها كل يوم وهم يعبرون حديقة المنزل نحو يوم جديد، لِتُسمع خطواتهم العائدة في المساء وهي تملأ الممرات فيعود الدفء معهم إلى كل زاوية كما لو أن البيت ينتظرهم بفارغ الصبر.

في المنزل نحن نقوم بفرص ثانية، نحن نعيش بشكل حقيقي، نحن نخطئ ونعانق ونتأسف بأعلى صوتنا، في المنزل نحن نبذل قصارى جهدنا معا.

لطالما يردد العملاء عند بدء العمل على تصميم منازلهم جملة تتكرر مع كل مشروع: "مهندسة، اعتبري أن هذا منزلك، وصمميه بناءً على ذلك."

هذه العبارة دائمًا ما تحمل في طياتها نوعًا من التنبيه والاهتمام العميق، وكأنهم يريدون التأكيد على ضرورة أن أضع كل شغفي وخبرتي في هذا التصميم، خاصّة ان المهندس المعماري على غيره من الأشخاص يملك قدرة على تخيّل المنزل قبل أن يتم بناءه، وهذا ما يفتقده معظم العملاء الذين يكونون عاجزين تماما عن تخيّل اي زاوية من زوايا المنزل مما يدفعنا دائما بمحاولة تعزيز خيالاتهم عن طريق رسم المخططات ونمذجة الصور والفيديوهات الثلاثية الأبعاد التي تجعلهم أقرب فأقرب فأقرب الى منزل الأحلام.

لكن تلك العبارة جعلتني أتساءل: ماذا لو كنت سأصمم منزلي الخاص؟ وأنا التي صممّت عشرات المشاريع واشرفت على بناءها، خضّت في تفاصليها الدقيقة وارتكبت حتما قرارات متسرّعة في بعض المشاريع، والآن بعد كل تلك التجارب، عندما اصمم منزلي، كيف سيكون تصميمه؟

كما نعلم أن عملية تصميم المنزل تبدأ بخطوات مبكرة أكثر مما نعتقد، فاختيار الموقع هي البداية الحقيقية لأي تصميم، وهذا يعني دراسة انعكاس التصميم الحضري المحيط بموقع المنزل الذي سوف اختاره لأن ذلك يعني بالضرورة اختيار مجتمعي ومحيطي، سأبحث عن الخدمات المتوفرة حول الموقع من مقاهي ومحالّ تجارية، وسأكون حريصة على وجود حديقة عامة بمحيط الموقع يمكنني الوصول اليها بسيارتي خلال عشرين دقيقة على الأقل، من الضروري ايضا اجراء دارسة كاملة للأحكام التنظيمية الخاصة بالموقع والتي تشمل نسب البناء والمساحات الخضراء وعدد الطوابق المسموح بها لضمان عدم تسلل اي مشاريع تجارية قد تسبب ازعاجات مستقبلية او اختناقات مرورية قد تتسب في خفض قيمة العقار الذي سيكون بمثابة استثمار مستقبلي آمن وعلي أن اضمن استمرار قيمته المادية والمعنوية لعقود قادمة.

بعد ذلك سأكون حريصة على انتقاء الموقع الذي يملك اطلالة مميزة، ذلك المشهد الذي سيحتضنني من شرفة المنزل في كل الأوقات اذا اتأمل حياتي من خلاله وأقوم باتّخاذ القرارات وحتما عليه ان يلهمني عند النظر اليه وانا اكتب مقالاتي وقصصي ورواياتي.

بعد ذلك سأبدأ بدراسة دقيقة للموقع الأفضل لمسّطح البناء على قطعة الأرض التي ستتجاوز مساحتها الثلاث دونمات على الأقل، سوف اتتبع حركة الرياح والشمس وسأراقب حركة الظل خلال النهار، سأتخيل كيف يمكن لرقصات الظلال ان تتفاعل مع المساحات الداخلية لغرف منزلي، وبالأغلب سيكون منزلي محدود المساحة بحيث اشعر بدفئه وحتى يتسنّى لي التواجد والتفاعل مع كل اركانه دون ان احصل على فراغات مترامية الأطراف دون جدوى حقيقية من وجودها، سيتكون منزلي من طابقين، فالطابق الأرضي سيجمع بين صالة معيشة واسعة مع مطبخ كبير له (كاونتر) تتدلى فوقه قطع الإنارة الديكورية، هذا الفضاء سيكون متصل ومفتوح على الحديقة الخارجية ومطّل على بركة السباحة الخارجية، سيحتوي الطابق الأرضي ايضا على مرسم كبير خاص بي حيث سأقوم بالعمل فيه عندما لا يكون هناك ضرورة للعمل من مكتبي في عمّان، هذا الفراغ سيكون كبير ومجّهز بكل ادوات الرسم واجهزة التصميم، سيحتوي على مكتب كبير وستوديو مخصصّ للتصوير، سأضع في احدى الزوايا المرسم الذي صنعه والدي يدويا لي عندما ارتدّت كلية العمارة، مرسم خشبي كبير من الزان الأحمر الصلب والفورمايكا البيضاء بمقابض خشبية ضخمة تسمح بالتحكم بمدى ميلان اللوحة، سيكون هذا الفراغ مغلف بالأبواب الزجاجية التي ستصنع امتدادا بصريا للحديقة الخارجية، اذا يمكنني التنقل بين المرسم والحديقة بكل سهولة.

بعد الحرص على ان يحتوي الطابق الأرضي ايضا على غرفة ماستر خاصة بضيوف المنزل مع حمامها الخاص، مطبخ خدمات صغير، غرفة عاملة منزلية، حمام صغير، ومستودع، سيكون الطابق الأول مكّون من عدة غرف ماستر، وكل هذه الغرف سيكون لها اطلالة مباشرة على حديقة المنزل والمنطقة بشكل عام، قد أكون محظوظة لأملك اطلالة على احدى الجبال المليئة بالأشجار الحرجية، أو مثلا اطلالة على البحر، او على سماء عمان، المهم انني أرى السماء بوضوح.

سأستخدم مادتين فقط من المواد التي ستغطي طابع المنزل العام، احداها الإسمنت المطروق بسطحه الخشن الذي يتفاعل بشكل مميز مع الإضاءة الطبيعية والصناعية ليخلق تأثيرات بصرية متغيرة طوال اليوم، والمادة الثانية هي الخشب الصولد الذي سيضيف طابعا من الدفء والحميمية وملمساً حسياً في جميع أنحاء المنزل حيث تصنع منه الأبواب والمطابخ والكاونترات وبعض ديكورات السقف ليخلق تبايناً متناغماً مع برودة الإسمنت المطروق، في قلب هذا التصميم سأصنع فناءا يتوسط كتلة المنزل حيث ازرع شجرة زيتون رومي لتكون رمزا للسلام والتاريخ والأصالة، وتعبّر عن الجذور العميقة التي تربطنا بأرضنا وثقافتنا، فأغطي الحوض بكسر الحجارة البيضاء، واترك واجهة تتراص عليها الأحجار غير المنتظمة وكأنها صفحات من ذاكرة الأرض تتدفق عليها مياه شلال صغير برفق ورويّة ليتردد صدى خرير المياه في كل زوايا المنزل وكأنه ايقاع لحياة مليئة بالحب والسلام.

سأحرص على زراعة كل المساحات الخارجية بكثير من انواع الأشجار، فلا بد مثلا من وجود شجرة ياسمين كبيرة، وبعض من اشجار السرو، ايضا عدة نخلات واشنطونية، وايضا الكثير من الورود تزّين كل الأركان والزوايا وتنثر رائحتها في كل مكان، وبين تجمع كبير لعدة اشجار سأختار مكانا لطاولة الطعام الخارجية، وبيد انني كنت ولا ازال اهتّم اهتماما عميقا بالزراعة المائية التي تمحور حولها مشروع تخرّجي في الجامعة منذ سنوات مضت، سأحرص على وجود مساحات واسعة لمعدّات الزراعة المائية حيث يمكن الحصول على محصول وفير ودائم من مختلف انواع الورقيات وبعض الخضار، وحتما سيكون تدخّلي في طبيعة الأرض محدود، محدود جدا.